ثلاثة كؤوس؛ ثمانية فناجين؛ وخمسة صحون كُسِرت إضافة إلى المِرآة الواقفة في البهو، الحساء وأرغفة الخبز وعدّة أشياء أخرى كانت مَبْثوثة فوق أرضيّة المطبخ. لم تكن هذه هزّةً أرضيّة ولا محاولة سرقة ولا حيواناً أليفا عبث في المكان، إنّما هو نقاش روتينيّ دار بين فرَح وزوجها هشام حول المكان المناسب لوضع المزهريّة الجديدة التي كُسرت هي أيضا. وانتهى هذا النّقاش كالعادة بِوابل من الصّراخ وتذكيرِ هشام لِفرَح بكلّ مصاريف العُرس الذي كان قبل ستّ سنوات، وتذكير فرح له بدورها عن ملابسه المُزركشة التي كان يرتديها قبل أن تتزوّجه وتُعلّمه التّنسيق بين الملابس وأنّ حِزام البنطال عادة ما يكون تحت السُّرّة لا فوقها. وبعد غليان وتقلّبات وتمْحيص للمكان بعيون مُتأرجحة هدأ هشام. لقد أدرك أنّه بالغ مجدّدا في ردّة فعله، فلا فرق بين وضع المزهريّة في مدخل البيت حتى تقابل الضّيوف ووضعها في غرفة الاستقبال أين تنعكس عليها أشعّة الشّمس. ففي النّهاية من سيأتي سيدْلف باب المنزل ثمّ يدخل غرفة الاستقبال ويرى هذه المزهريّة حيثما كانت. وككلّ مرّة يصبّ حِمم غضبه على زوجته فرح. هذا ليس غضب المزهريّة وحده؛ يفكرّ هشام، هل هناك حقّا من يغضب بهذا القدر من أجل مزهريّة؟ هناك أمور أخرى مُتكدّسة؛ ضغط العمل ومشكلة في السّيّارة والكثير أيضا. ولأنّه يعلم أنّ فرح لن تطرده خارج المنزل أو تهجره أو تخذِله مثلما قد يفعل غيرها. فهي إذاً المكان الأمثل لتفريغ كلّ هذا الغضب.
وككلّ مرّة يحدث فيها هذا تنْزوي فرح إلى غرفتها، تستلقي على بطنها وتدفن وجهها داخل وسادةٍ لِتكتم صوت بكائها، وبمجرّد أن تشعر أنّ هشام يقف على عتبة الباب يهمّ بالدّخول ليعتذر منها تكتم أنفاسها وتتظاهر بالنّوم. هو يعلم أنّها مستيقظة لكنّه يفضّل الانتظار حتّى تنطفئ آخر جمرة، بمجرّد أن تنام فِعلا وتستيقظ صباحا سيَهوي بقُبلة على جبينها ويعتذر منها وهي ستسامحه كما جرَت العادة. وهي تعلم أنّه سيعتذر وتعلم أيضا أنّها ستسامحه لكنّها تمنح نفسها مساحةً من الكبرياء، فلا يجب في النّهاية أن تترك نفسها هكذا مَعْبدا ليس له من القَداسة سوى اسمه، يستمر المذنبون بالتّمادي في غَيّهم ثمّ يدخلونه لطلب المغفرة في أيّ وقت شاءوا.
خلع هشام ملابسه واستلقى هو الآخر بجانبها، غير أنّ النّدم أو ربّما تأنيب الضّمير كان يتلاعب به تلاعب أصابع العازف على البيانو. لهذا السّبب قطع عهدا على نفسه بأن تكون هذه آخر مرّة يحدث فيها مثل هذا. وإنّ الإنسان العاقل لا يجدر به قطع العُهود والوعود في لحظة ندم أو لحظة نَشوة. لكنّه فكّر طويلا؛ هذه المرأة هي زوجته التي ذاقت معه طعم الحياة المرير وتحمّلت كلّ الأعباء والمساوئ معه. وإنّه ليدري أنّه لا يفعل هذا إلّا لثقته في أنّها يستحيل أن تدير ظهرها له. وإنّ من واجبه الآن كرجل شريف غيرِ ناكرٍ للجميل أن يجعل حياتها نعيماً لا جحيما.
مَدّ أطرافه الأربع وأَسْدل جفنيه ليغرق في بحر من التّخطيط، وإنّك لتعلم كما أعلم أنّ النّفس التي تندم ستبدأ بالثّرثرة ليلا دون توقّف:
نعم سأعتذر منها صباحا، وليس هذا فقط؛ فمجرّد الاعتذار لشخص طعنتَه عشرات المرّات لن يغيّر شيئا. كما أنّها اعتادت أن ترمقني بنظرة التّشكيك كلّ مرّة، وبالفعل كنت أعود لأفعل فعلتي مرّة بعد أخرى. غدا سأنهض باكراً..باكرا جدّا، وسأتخلّى عن العمل لهذا اليوم وأخصّصه كلّه لها. سأقوم بتنظيف ما خلّفته ورائي أوّلا، ثمّ سأعدّ الفطور. نعم سأجهّز مائدة سلاطين، وإن كنتُ غير ماهر في الطّبخ فإنّني سأعوّض هذا بأشياء أخرى. سأضع المائدة في غرفة الاستقبال وفي وسط المائدة سأشعل شُموعا حمراء معطّرة؛ وعلى أطراف الغرفة ربّما قد أنْثر بعض بَتَلات الورد. وسأُجهّز خليطا من المكسّرات وعلى نار هادئة سيعْبق البيت برائحة القهوة. وبمجرّد أن تستيقظ ستجد السّكوت غالبا على البيت فتحسب أنّني ذهبت إلى العمل. وما إن تنزل الدّرج سأنقض عليها كبُومة ثلج لأطوّقها بذراعيّ وأخبرها أنّني لا أطيق يوما بل ساعة دونها. وهكذا تعود المياه إلى مجراها ويُشرق ثغرها من جديد.
وما كان من طيف النّعاس سوى أن ألقى ردائه على هشام قبل أن يضيف لمساته الأخيرة على مخطّطه هذا. لقد استمرّ بالتّخطيط وكأنّه رُبّان هذه السّفينة التي تُدْعى حياة، ناسِيا أنّ فرح هي الأخرى ربّما تكون قد أبحرت في مخطّطها الخاص قبل أن تنام.
في الصّباح أحسّ هشام بشعاع الدّفء يداعب وجهه، فتح عينيه ولمح ضوء النّهار وسمع حركة البشر في الخارج. نهض من سريره لاعِنا حظّه البائس لكنّه خَمد واستكان عندما لمح فرح بجانبه لا تزال نائمة. فما كان منه إلّا أن يعوّض ما فاته وكان ذلك؛ فقد بدأ بتنفيذ مخطّط الصّلح خاصّته. ولا تحسب طبعا أنّه سيُلمّ بكلّ تلك التّفاصيل التي كان يثرثر بها أمس فاعتياد الإنسان على النّتائج المتوقّعة سلَفا يجعله يتمادى في ثقته. وبعد قُرابة السّاعة؛ بعد جهد كبير ورَشْح للجبين انتهى هشام من إعداد مائدة الصّلح، والأحرى به كان أن يعدّ الصّلح فقط بعيدا عن أيّ مائدة. غير أنّ بعض النّاس يقدّمون الهدايا ويجهّزون المفاجآت حسب أذواقهم هم دون مراعاة لِذوق الذي سينالها. وكما أنّ الطّفل لا يُطيق صبرا أن يُري والدته ثمرة جهده لم يُطق هشام الانتظار حتّى تنزل فرح الدّرج لوحدها. فما كان منه إلّا أن قفز إلى غرفتها ليستلقي جانبها ثمّ يطوّقها بذراعيه ويبدأ بالهمس قرب أذنها:
“فرح غزالتي استيقظي...استيقظي...“.
وأثناء هذا تحسّس برودة أطرافها وشُحوب وجهها وانعدام أنفاسها. فنزل أرْضا على ركبتيه يتوجّس تنفّسها ونبضات قلبها إلا أنّه لم يشعر بشيء. يبدو أنّ جسدها ما زال يُسامح هشام ويرفض هَجره لكنّ روحها ضاقت ذرْعا بكلّ هذا الألم. لقد كانت فرح هناك مستلقية كدُمية قديمة، ولقد فكّر هشام لآخر مرّة؛ هل تأخّر هو في إيقاظها، أو ربّما ما كان عليه إحضار المزهريّة أصلا، أو ربّما قرّرت فرح معاقبته هذه المرّة بقسوة على عكس ما سلف، أو ربّما شيء آخر لا يزال هو غافلا عنه.
وفي النّهاية؛ ماتت فرح ورائحة البيت كما خطّط هشام كانت فعلا تعْبق برائحة القهوة.